النمو الاقتصادي الخليجي: معركة الخروج من عباءة النفط تحدد مصير المنطقة

النمو الاقتصادي الخليجي: معركة الخروج من عباءة النفط تحدد مصير المنطقة

يناقش الخبراء والناشطون مستقبل التنمية في دول الخليج العربي بشكل متواصل منذ أكثر من أربعة عقود، حيث تأسست منتديات تطوعية متخصصة مثل “منتدى التنمية” لدراسة موضوعات حيوية تتعلق باقتصادات المنطقة، وقد تناولت اجتماعاته الأخيرة في الرياض ومسقط مواضيع الثقافة والتغيرات المناخية، بينما يستعد المنتدى لمناقشة التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في المنامة، مما يعكس الرغبة في مواكبة المتغيرات العالمية.

لقد أثرى هذا الجهد التطوعي المكتبة العربية بما يزيد على 35 كتاباً متخصصاً في قضايا التعليم والمرأة والمياه والأمن، وهي متاحة للجميع مجاناً عبر الإنترنت، وتعتبر حصيلة نقاشات وأوراق عمل قُدمت خلال اللقاءات السنوية، ورغم أن الاقتراب من قضية التنمية في الخليج يتطلب تفكيراً استباقياً نظراً لتغير محركاتها باستمرار، إلا أن دولاً مثل المملكة العربية السعودية والإمارات تبنت خططاً اقتصادية واضحة شعارها تنويع مصادر الدخل، معتمدة على رؤية استشرافية لاقتصاد المستقبل بعيداً عن الاعتماد الكلي على الموارد الطبيعية.

التحديات التي تواجه مستقبل التنمية في دول الخليج العربي بعيداً عن النفط

إن الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل يمثل تحدياً جوهرياً، فأسعاره لا تخضع فقط لآليات السوق بل تتأثر بالقرارات السياسية الكبرى حول العالم، مما يجعلها متقلبة وغير مستقرة، يضاف إلى ذلك أن النفط كمصدر للطاقة يواجه منافسة شرسة من مصادر الطاقة البديلة التي تتطور بسرعة، كما أن اكتشاف احتياطيات نفطية جديدة في مناطق أخرى من العالم قد يقلل من مكانته كسلعة استراتيجية، وهذا الوضع يفرض على صانعي القرار ضرورة التفكير في مستقبل التنمية في دول الخليج العربي بمنظور مختلف تماماً لضمان استدامة النمو والازدهار.

الهدم الخلاق وجودة التعليم: محركات أساسية لضمان مستقبل التنمية في دول الخليج

تؤكد الدراسات الاقتصادية الحديثة على الدور المحوري للابتكار والتجديد التكنولوجي في تحقيق النمو الاقتصادي المستدام، وهنا يبرز مفهوم “الهدم الخلاق” الذي استلهمه المفكرون من الاقتصادي جوزيف شومبيتر، حيث يشير إلى العملية الديناميكية التي تحل فيها الابتكارات الجديدة محل الأنظمة القديمة، مما يؤدي إلى تدمير الصناعات المتقادمة لصالح أخرى أكثر إنتاجية وكفاءة، ويقع في قلب هذه العملية عنصران أساسيان هما تهيئة الموارد البشرية وجودة التعليم؛ فالانتقال من أشكال الإنتاج التقليدية إلى الحديثة يتطلب الاهتمام بالتعليم النوعي، لأن النمو الحقيقي لا يتحقق بالتوسع الكمي فقط، بل عبر تحولات هيكلية جذرية في الإدارة تخلق أنماطاً مبتكرة للإنتاج والتوظيف يقودها الأفراد الأكفاء والمؤهلون.

دروس من التجربة الإندونيسية لتحقيق مستقبل واعد في التنمية الخليجية

تقدم التجربة الإندونيسية نموذجاً ملهماً يمكن الاستفادة منه، فقد كانت هذه الدولة عضواً بارزاً في منظمة “أوبك” ومنتجة للنفط الذي شكل 70% من دخلها القومي، لكنها تحولت إلى دولة مستوردة له بعد نضوب مخزونها، وهو ما أجبرها على إعادة النظر في اقتصادها بالكامل، فبدأت رحلة “التحول الكبير” من منتصف الثمانينيات، والتي تضمنت إجراءات هيكلية جريئة، ومن أبرز خطوات هذا التحول ما يلي:

  • تشجيع الصناعات الخفيفة والمتوسطة لخلق قاعدة إنتاجية متنوعة.
  • جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة من خلال تطوير التشريعات الاقتصادية.
  • تطوير القطاع الزراعي وتوسيع نطاق قطاعي الخدمات والسياحة بشكل كبير.
  • تطبيق إصلاحات جذرية على النظام المالي وسياسات الضرائب.
  • تحسين الشفافية القانونية وتفعيل دور هيئات مكافحة الفساد.

بفضل هذه الإصلاحات، لم تعد إندونيسيا تعتمد على النفط مع مطلع القرن الحالي، بل وجهت استثماراتها نحو الصناعات الإلكترونية والتقنية ودعمت الشركات الناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية، كما تبنت مفهوم “الاقتصاد الأخضر”، وقد أسهم هذا التحول، المقترن بتحسين جودة التعليم وارتفاع معدلات الالتحاق بالجامعات، في نمو طبقة وسطى حضرية قوية قادرة على تحريك السوق الداخلية، وتراجع معدلات البطالة والفساد، مما يرسم مساراً واضحاً يمكن أن يساهم في تشكيل رؤية مستقبل التنمية في دول الخليج العربي.

أحد الدروس الرئيسية المستفادة من هذه التجربة هو أهمية “اقتصادات الحجم”، فالدول الصغيرة ذات السوق المحدودة تحتاج إلى التكامل لتعزيز قدرتها التنافسية؛ لذا يصبح الحديث عن سوق خليجية موحدة من الأولويات القصوى، مع ضرورة إحداث تغيير جذري في فلسفة التعليم للانتقال من التركيز على الكم إلى الاهتمام بالكيف، ورغم وجود محاولات جادة لتطوير التعليم في بعض دول الخليج، إلا أنها تظل غير مكتملة وتحتاج إلى تنسيق أعمق، وينطبق الأمر ذاته على الأمن الغذائي والمائي الذي يمكن تحقيقه بفعالية أكبر عبر التعاون المشترك، حيث تشير إحدى دراسات “منتدى التنمية” إلى أن 40% من موارد المياه تذهب للزراعة رغم مساهمتها المتواضعة في الناتج الإجمالي.

إن التقدم ليس أمراً مسلماً به، ويتوجب على المجتمعات مراقبة العوامل التي تولد النمو وتضمن استدامته، وعلى رأسها الابتكار العلمي وانفتاح المجتمع على التغيير، فالموجات التقنية المتلاحقة تغير بيئة العمل العالمية وقد تؤدي إلى تحديات اجتماعية، كما حدث في الهند التي عانت من ارتفاع البطالة بسبب التقدم التقني، مما يؤكد أن التطور الاقتصادي يجب أن يُنظر إليه بشكل شمولي لتجنب نتائجه السلبية، ويظل تحقيق مستقبل التنمية في دول الخليج العربي مرهوناً بهذه النظرة المتكاملة.

لقد نجح “منتدى التنمية الخليجي التطوعي” في تقديم إسهامات فكرية قيمة عبر دراساته التي تساعد صانعي القرار على فهم التحديات ووضع استراتيجيات فعالة للحفاظ على التنمية المستدامة للأجيال القادمة.

كاتب صحفي يهتم بتقديم الأخبار والتقارير بشكل مبسط وواضح، مع متابعة مستمرة للتفاصيل وتقديم المعلومة للقارئ بصورة دقيقة وسريعة.