تُعد أسباب فشل الدول العربية رغم التعليم المبكر لغزًا حير الباحثين لعقود طويلة، فكيف لدول امتلكت مؤسسات تعليمية سبّاقة وجامعات عريقة أن تتراجع، بينما نجحت دول أخرى بدأت مسيرتها لاحقًا في بناء كيانات مستقرة وقادرة على المنافسة، ويبدو أن الجواب يتجاوز حدود المعرفة والبنية الاقتصادية ليصل إلى الأساس السياسي الذي قامت عليه الدولة ذاتها.
كيف تسببت الأيديولوجيات الوافدة في فشل الدول العربية رغم التعليم المبكر؟
إن العامل السياسي كان دائمًا المقياس الحقيقي لقدرة الدول على النهوض أو الانهيار، وهو العنصر الذي سبق التعليم والاقتصاد في رسم مسارات العالم العربي خلال القرن العشرين، فالدولة التي تؤسس نظامًا تعليميًا واسعًا أو اقتصادًا متضخمًا على الورق دون امتلاك نموذج سياسي متجذر في ثقافتها وفطرة شعبها تظل كيانًا بلا روح أو قدرة على الاستدامة، وهنا تكمن المشكلة الجوهرية التي وقعت فيها الدول العربية التي بادرت بالتعليم ولكنها أخفقت في تأسيس دولة حديثة ومتماسكة، حيث انطلقت تلك الدول من نظريات سياسية وافدة صيغت في بيئات مغايرة تمامًا؛ كنظريات قومية واشتراكية وماركسية، ورغم الوعود البراقة التي حملتها، إلا أنها جاءت بمقاسات لا تناسب المجتمع العربي ثقافيًا أو اجتماعيًا، فكانت بمثابة ثوب أيديولوجي غريب ظنت الدولة أنها ترتقي بارتدائه، لكنه ظل غير مريح وغير قابل للاستخدام، ما يجعلها أحد أبرز أسباب فشل الدول العربية رغم التعليم المبكر.
هذه النظريات المستوردة افتقرت إلى الشرعية الثقافية، حيث اصطدمت بتصور المجتمع العربي للدولة ككيان متجذر في قيم الانتماء والأسرة والهوية ودور الدين كمصدر للشرعية، كما تعارضت مع الفطرة الاجتماعية، التي تمثل مجموعة القيم والممارسات الراسخة التي تشكل إطارًا مرجعيًا لفهم العدالة والسلطة، فالمواطن العربي لا يرى الدولة جهازًا تقنيًا مجردًا، بل كيانًا يحمل معاني الحماية والعدالة والاستمرارية، بينما حاولت الدولة المؤدلجة تحويله إلى نص سياسي مغلق وشعارات تعبوية لا صلة لها بحياة الناس اليومية، وهنا حدث الانشقاق الكبير؛ حيث عاش المجتمع في عالم والدولة في عالم آخر، وأصبح الخطاب الرسمي يتحدث عن الثورة والوحدة بينما كان المواطن يبحث عن الأمن والعدل ولقمة العيش، وهذه الفجوة حولت الدولة إلى كيان صوري يرفع شعارات ضخمة لكنه فارغ من الداخل، ومع سقوط النظرية السياسية في اختبار الواقع، اعتمد النظام على الأجهزة الأمنية لتعويض غياب الشرعية، وتحولت تلك الدول إلى دول أمنية، وأصبح التعليم أداة للتسييس بدلًا من أن يكون محركًا للنهضة.
نموذج الدولة المنسجمة مع الهوية: كيف تجنبت السعودية أسباب فشل الدول العربية؟
في المقابل، برزت تجارب عربية أخرى بدأت متأخرة نسبيًا في التعليم والاقتصاد لكنها امتلكت الأساس الغائب لدى غيرها، وهو نموذج سياسي منسجم مع الثقافة والفطرة وحاجات المجتمع، وهذه الدول لم تستورد نظرية جاهزة، بل صممت نموذجًا يلائمها ويستثمر في نقاط قوتها، وتأتي المملكة العربية السعودية في طليعة هذه التجارب كنموذج ناجح لبناء دولة حديثة دون الاصطدام بهويتها أو إجبارها على ارتداء أطر أيديولوجية جاهزة، فنجاحها لم يكن إداريًا فحسب، بل كان نجاحًا في قراءة المجتمع وإعادة بناء العلاقة بين الدولة والناس على أساس متين، فبدلًا من الاعتماد على أيديولوجيات مستوردة، استندت السعودية إلى شرعية تاريخية واجتماعية عميقة، وقدمت مفهومًا للدولة المركزية التي تقوم بدور الحماية والتنظيم والخدمة، لا دور التلقين السياسي، وبهذا تجنبت بذكاء كل أسباب فشل الدول العربية رغم التعليم المبكر التي عانت منها دول أخرى.
حين انطلقت مرحلة التحول الوطني الكبرى في السنوات الأخيرة، جاءت من داخل النموذج السعودي نفسه ولم تكن استيرادًا لنظرية جديدة، فالإصلاح كان تطورًا داخليًا طبيعيًا لا قطيعة مع الماضي أو قفزة فوق المجتمع، وقد نجحت السعودية في تحقيق معادلة فريدة من خلال:
- بناء المؤسسات الحديثة وتطوير القضاء وهيكلة الاقتصاد.
- تمكين القطاع الخاص وتحديث أجهزة الدولة بشكل متكامل.
- تنفيذ كل عمليات التطوير دون تفكيك الهوية أو مصادمة الفطرة الاجتماعية.
- معالجة التحديات، مثل الاعتماد على النفط، ضمن إطار من الانسجام الثقافي والسياسي.
هذا النهج المتوازن هو جوهر النجاح الذي مكن من بناء دولة حديثة في بيئة محافظة، دون أن تفقد الدولة شرعيتها أو يشعر المجتمع بالاغتراب، ما جعل التجربة السعودية قصة نجاح فريدة تتجاوز الأزمات التي واجهتها دول المنطقة.
الأساس السياسي السليم كحل جذري لمعضلة فشل الدول العربية رغم التعليم المبكر
ما فعلته السعودية هو أنها جعلت السياسة أداة خدمة لا أداة أيديولوجيا، فالدولة ليست منصة للخطاب التعبوي، بل جهاز إدارة وطني هدفه خدمة المواطن وتحسين جودة حياته، فالسياسات العامة تُصاغ بناءً على التحليل لا الشعارات، والعلاقات الإقليمية تُبنى على المصالح لا الأوهام، والتعليم يُربط بالاقتصاد، والاقتصاد بالتقنية، والتقنية برؤية مستقبلية واضحة، وهذا التكامل جعل المملكة تقفز في سنوات قليلة قفزات احتاجت دول مؤدلجة عقودًا لتحقيق جزء يسير منها، ورغم أن البعض قد يجادل بأن الموارد النفطية كانت العامل الحاسم، فإن التاريخ يثبت أن وفرة الموارد وحدها لا تصنع نجاحًا، بل قد تتحول إلى “لعنة” كما في حالات كثيرة، فالفارق الحقيقي كان في كيفية إدارة هذه الموارد ضمن نموذج سياسي متماسك.
| المعيار | نموذج الدولة المؤدلجة | النموذج السعودي المنسجم |
|---|---|---|
| مصدر الشرعية | نظريات مستوردة وشعارات سياسية | تاريخ متجذر وهوية اجتماعية وثقافية |
| دور الدولة | التلقين الأيديولوجي والتعبئة الجماهيرية | الخدمة والتنظيم وتحقيق التنمية المستدامة |
| علاقة الدولة بالمجتمع | فجوة عميقة وشعور بالاغتراب | امتداد طبيعي للمجتمع وتعبير عن قيمه |
| وظيفة التعليم | أداة للتسييس أو تهديد للسلطة | محرك رئيسي للاقتصاد وإنتاج المعرفة |
الدرس الذي تكشفه هذه المقارنة واضح، فلا يمكن لدولة أن تنجح إذا انطلقت من نظريات الآخرين أو حاولت فرض ثوب فكري لا يناسب شعبها، فالدولة الحقيقية تُبنى من الداخل، من ثقافة المجتمع وفطرته وقيمه، ثم تطور أدواتها بذكاء لتواكب العصر، وما لم تُحل المعضلة السياسية، فإن المدارس والجامعات والخطط الاقتصادية لن تجدي نفعًا، وعندما يكون الأساس السياسي صحيحًا، يثمر التعليم وينمو الاقتصاد وتترسخ المؤسسات، وتتحول الدولة من كيان هش إلى مشروع حضاري مستقر.
إن ما تمكنت السعودية من تحقيقه يطرح نموذجًا عربيًا حديثًا قائمًا على الانسجام بين الهوية والفكرة والدولة، وهو ما يمثل الإجابة العملية على سؤال أسباب فشل الدول العربية رغم التعليم المبكر، لكن يبقى التساؤل قائمًا حول إمكانية تعميم هذا النموذج، أم أن خصوصية كل مجتمع عربي تتطلب نموذجًا فريدًا خاصًا به.
