يُعتبر الطب في مصر القديمة أحد أبرز إنجازات الحضارة الفرعونية، حيث تكشف نقوش المعابد والبرديات عن معرفة طبية عميقة وممارسات جراحية متطورة؛ فقد وثقت هذه المصادر مئات الوصفات والتشخيصات لأمراض معروفة اليوم كالسكري وأمراض الأسنان، وقدمت أول وصف تاريخي موثق لسرطان الثدي، مما يبرهن على مدى تقدم هذا العلم الفريد.
بردية إيبرس: حجر الزاوية في الطب في مصر القديمة
تعد بردية إيبرس، التي اكتُشفت عام 1861، أطول وأهم وثيقة طبية تاريخية وصلت إلينا من تلك الحقبة، وقد سُميت بهذا الاسم نسبةً للعالم الذي اشتراها، وتحتوي هذه البردية المذهلة على أكثر من 700 وصفة علاجية وتركيبة دوائية، بالإضافة إلى عشرات التعاويذ التي كان يُعتقد أنها تطرد الأرواح الشريرة المسببة للأمراض، مما يعكس المزج بين العلم والسحر في ممارسات الطب في مصر القديمة؛ كما قدمت البردية فهماً متطوراً بشكل مدهش لجسم الإنسان، حيث وصفت القلب بأنه المركز الذي يضخ الدم إلى كل أنحاء الجسم عبر شبكة من الأوعية، واعتبرته نقطة التقاء السوائل الحيوية كالدموع والبول والسائل المنوي، وهو فهم لم يكن دقيقاً بالكامل ولكنه كان سابقاً لعصره.
لقد أرست بردية إيبرس أسس تشخيص أمراض معقدة؛ فهي أول مرجع طبي معروف يصف مرض السكري تحت مسمى “كثرة التبول”، كما أنها لم تغفل الجانب النفسي، حيث وصفت بالتفصيل اضطرابات مثل الخرف والاكتئاب، معتقدةً أنها تنجم عن مزيج من انسداد القنوات الجسدية وتأثير الآلهة الغاضبة، وتضمنت البردية كذلك قسماً كاملاً عن صحة المرأة، شاملاً وسائل منع الحمل وطرق الكشف عن الحمل والمشكلات النسائية المختلفة، إلى جانب فصول متخصصة في علاج أمراض الجلد والعيون والأسنان والطفيليات المعوية، وتفاصيل دقيقة حول كيفية إجراء تدخلات جراحية لعلاج الأورام والكسور والحروق.
كيف تعامل الطب المصري القديم مع الأمراض المستعصية؟
لم تكن بردية إيبرس هي الوحيدة التي شكلت مرجعية علمية، بل كانت جزءاً من مكتبة طبية متكاملة كشفت عن عمق معرفة أطباء وادي النيل، حيث قدمت برديات أخرى رؤى متخصصة ساهمت في تطور الطب المصري القديم.
| البردية | التخصص الرئيسي |
|---|---|
| بردية إدوين سميث | الجراحة وعلاج الإصابات والكسور |
| بردية كاهون | أمراض النساء والتوليد |
| بردية هيرست | وصفات علاجية متنوعة وتعويذات |
كشفت هذه النصوص أن الأطباء كانوا على دراية بمجموعة واسعة من الأمراض الخطيرة، خاصة أمراض القلب مثل عدم انتظام ضربات القلب وقصور القلب الاحتقاني، كما قدمت بردية إدوين سميث أول وصف مكتوب للسرطان في التاريخ، وتحديداً سرطان الثدي الذي وُصف بأنه “ورم منتفخ في الثدي لا علاج له”، بينما ذكرت بردية إيبرس أوراماً أخرى كتضخم الغدة الدرقية وأورام الجلد والمعدة، مع إشارات إلى محاولات علاجية تشمل الكي والجراحة واستخدام مركبات كيميائية مثل أملاح الرصاص ومعجون الزرنيخ، مما يظهر مدى شمولية الطب في مصر القديمة.
وتعد صحة الفم والأسنان من أبرز المجالات التي تفوق فيها المصريون القدماء، فقد غطت البرديات الطبية مشكلات مثل تسوس الأسنان، والتهاب اللثة، وتكوّن الجير، وقرح الفم، وخلع الفك، ولم يقتصر الأمر على التشخيص بل امتد إلى إجراء جراحات دقيقة؛ حيث عُثر على مومياء من الأسرة الرابعة بها ثقوب تم حفرها جراحياً لتصريف خراج تحت أحد الأضراس، وفي اكتشاف مذهل آخر، وُجدت مومياء تم فيها ربط ضرسين متخلخلين بسلك من الذهب المنسوج ببراعة حول اللثة لتثبيتهما.
وصفات علاجية فريدة: نظرة على دستور الأدوية في مصر القديمة
كان دستور الأدوية المصري القديم موسوعة حقيقية للمواد العلاجية المستمدة من مصادر طبيعية متنوعة، فبردية هيرست وحدها تحتوي على مئات العلاجات لأمراض الجهاز الهضمي والمسالك البولية والجلد والكسور وغيرها، معتمدة على تركيبة غنية من النباتات والحيوانات والمعادن، وقد عكس هذا التنوع فهماً عميقاً لخصائص المواد، ويظل إرثاً شاهداً على عبقرية الطب في مصر القديمة؛ فقد تم استخدام النباتات بشكل مكثف، سواء كانت ثماراً أو أوراقاً أو جذوراً.
- اليانسون والشعير
- القرفة والخروع والكزبرة
- الكمون والتمر والشمر
- التين والثوم واللوتس
- بذور الخشخاش والزعفران
ولم تقتصر الوصفات على المصادر النباتية، بل امتدت لتشمل استخدام الدهون الحيوانية كشحم الإوز الذي كان يُستخدم فموياً لتسكين الألم وموضعياً للاسترخاء، كما دخلت منتجات حيوانية أخرى في العلاجات مثل البيض والحليب والبول، وأجزاء مثل العظام والدم والكبد، وقد تميزت بعض المواد بخصائص علاجية فائقة، مثل شمع العسل الذي كان مكوناً أساسياً في المراهم الجلدية، والعسل الذي ورد ذكره في حوالي 500 وصفة كمضاد للسعال ومطهر للجروح ومسكن لآلام الأسنان.
وقد أولى الطب في مصر القديمة أهمية كبرى للوقاية من الأمراض، حيث قدمت البرديات توصيات صحية متقدمة تشبه إلى حد كبير إرشادات الصحة العامة المعاصرة؛ فقد نصح الأطباء الناس بغسل أجسامهم بانتظام وحلاقة الشعر لمنع العدوى، كما شددوا على ضرورة توخي الحذر في تناول الطعام وتجنب الأسماك النيئة والحيوانات غير النظيفة.
